فصل: تفسير الآيات (68- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (63- 67):

{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)}.
التفسير:
{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
هكذا دخلوا على أبيهم بهذا الحديث: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ}! أفبعد هذا الانتظار الطويل، ومعاناة الصبر على الجوع والحرمان، انتظارا لهذا الخير الذي يجيء من مصر- أبعد هذا يطلعون على أبيهم بهذا الخبر المزعج: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} ثم ما العلاقة بين أن يمنع منهم الكيل وبين طلبهم أن يرسل معهم أخاهم كى يكتالوا؟ ما شأن الأخ بهذا؟
وهل هو بضاعة يشترى بها من مصر ما يكال؟ ذلك شيء عجيب! ثم كيف يقولون: {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}؟ وكيف يحفظونه، وهم يركبون هذه الطرق التي لا يأتى منها خير؟ لقد ذهبوا إلى مصر، واحتملوا هذا العناء الشديد.
ثم عادوا من غير أن يحصلوا على شيء.. فكيف كان هذا؟ وما لأحوال هذه الدنيا قد تبدّلت وتحولت، حتى لا يكون بيع أو شراء إلا بهذه التحكمات التي لا مفهوم لها؟
لا شك أن يعقوب قد لقى هذا الطلب الذي طلبه أبناؤه منه- لقيه بتساؤلات كثيرة، أطلعته منهم على ما كان بينهم وبين العزيز حتى لقد عادوا دون أن يكال لهم كما يكال للناس! وهنا ينكشف ليعقوب ما أخفاه عنه أبناؤه لأمر ما.. لقد كال لهم العزيز، وعاد كل منهم ومعه حمل بعير..!
وإذن فماذا أرادوا بقولهم: {يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ}؟
إنهم أرادوا أن يحققوا بذلك أمورا.. منها:
أولا: الاستيلاء على عواطف أبيهم، وذلك بمواجهته بهذا الخبر الذي يبعث فيه الهمّ والقلق.. ثم لقائه فجأة بهذا الخبر الهنيء المسعد.. إنهم قد اكتالوا، وجاء كل منهم بحمل بعير.. ولكنهم منعوا مستقبلا من أن يكال لهم، حتى يكون معهم أخوهم من أبيهم!! وثانيا: في الحديث عن منع الكيل في المستقبل إلا بتحقيق هذا الشرط، إغراء لأبيهم بالمبادرة إلى إجابة طلبهم حتى يسرعوا بالعودة إلى مصر، ليأخذوا دورهم من الميرة قبل أن تنفد! وها هو ذا يعقوب لا يزال واقعا تحت تأثير الصدمة التي صدم بها حين سمع قولهم: {يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ}.
وإنه الآن لحريص على ألا تفوته الفرصة المواتية لجلب الميرة، مهما كان الثمن غاليا!! وهكذا أصاب قولهم: {يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} أصاب من أبيهم ما أرادوا من تخويفه بالمستقبل، إن لم يبادر ببعثهم إلى مصر مرة أخرى ليكتالوا، وأن يذلل كل صعب لإنفاذ هذا الأمر.. فهم صادقون في قولهم: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} لأنه منع منهم مستقبلا إن لم يجيئوا معهم بأخيهم من أبيهم، كما قال لهم يوسف: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ}.
وكما قال: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ}.
ولكن هذا الخبر حين ألقوه إلى أبيهم لم يحمله على المستقبل، بل حمله على الحال التي كان يعيش فيها. ويتوقع الخير الذي يحمله أبناؤه العائدون من مصر.. عندئذ يلقى يعقوب أبناءه بقوله، الذي حكاه القرآن الكريم عنه:
{قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
لقد تمثّل له في هذا الموقف ما كان منهم من إلحاح عليه في طلب يوسف، ليرتع ويلعب معهم، كما يقولون، ثم جاءوا إليه عشاء يبكون، قائلين:
{يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}! لقد تمثل له هذا الموقف، فرأى فيما يطلبه أبناؤه منه الآن صورة مشابهة تماما له، وأن الذي دبّروه ليوسف ليس ببعيد أن يدبّر مثله لأخيه!- ففى قوله: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} اتهام لهم بالكيد ليوسف أولا، ثم السير في طريق الكيد لأخيه.. ثانيا.. ثم هو- مع هذا الاتهام- ينكر عليهم أن يعودوا فيكرروا فعلهم المنكر الذي فعلوه بيوسف فيفعلوه بأخيه.!
وفى قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
هو عزاء له، يعزّى به نفسه في حزنه على يوسف، وذلك بتسليم الأمر للّه سبحانه، والاستسلام لقدره، والرضا بمقدوره. وأنه سبحانه لو أراد حفظ يوسف لحفظه، فهو خير الحافظين، لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بأمره.. {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
فما ينزل بالناس من مكروه، هو واقع بهم من ربّ رحيم، فهو رحمة بالنسبة لما هو أقسى منه وأوجع! قوله تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}.
لقد كان الحديث الذي جرى بينهم وبين أبيهم أول شيء استقبلوه به، وذلك لأن العيون كانت متطلعة إلى ما يحملون معهم من زاد وميرة.. فكان جوابهم لهذه العيون المتطلعة قولهم: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ}! ثم كان جوابهم عن التساؤلات الكثيرة حول أسباب هذا المنع، قولهم: {فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ}.
ثم كان قولهم: {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} تزكية لهذا الطلب.
ثم بعد هذا نظروا في أمتعتهم التي معهم، فوجدوا أن البضاعة التي كانوا قد حملوها معهم إلى مصر، والتي اعتقدوا أنها قد أصبحت في يد العزيز، مقابل الكيل الذي كاله لهم- وجدوا أن هذه البضاعة قد ردّت إليهم: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} فعجبوا لهذا، وحسبوا أن في الأمر خطأ، أو أن العزيز ربّما بدا له ألا يأخذ منهم ثمنا لهذا الكيل الذي كاله لهم، انتظارا لعودتهم إليه في المرة الثانية.
{قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي} أي ماذا نريد؟ هذه بضاعتنا ردّت إلينا، فماذا نفعل بها؟ وكيف نصبر على ما نحن عليه من حاجة إلى الطعام؟ إنها بضاعة قد أعددناها لنشترى بها طعاما، وها هي ذى لا تزال في أيدينا، وإنه لا سبيل إلى الانتفاع بها إلا إذا عدنا بها إلى مصر مرة أخرى، وجلبنا بها الطعام الذي نريد.!
وفى قولهم: {وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} الواو هنا للعطف على محذوف تقديره.. إذ كان ذلك كذلك، نعود إلى مصر ونمير أهلنا، أي نتزوّد لهم بالميرة، وهى الطعام، ونحفظ أخانا الذي سنأخذه معنا، والذي بغيره لا يكال لنا، ونزداد به كيل بعير، إذ سيكون لكل منّا حمل بعير.. {ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي أن العزيز لا يعطى طالب الميرة إلا في حدود مقدّرة لكل فرد مهما كانت قيمة البضاعة التي يحملها معه! إنه لا يأخذ أكثر من حمل بعير! وانظر كيف استدعوا أخاهم من أبيهم بهذا الأسلوب اللّبق الحكيم:
{وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}.
لقد جعلوه طلبا ثانيا بعد الطلب الأول، وهو الميرة، وشدّوه إليه، بحيث لا تكون الميرة إلّا به.
فهم لم يقولوا: ونأخذ أخانا، بل قالوا: {وَنَحْفَظُ أَخانا}.
كأن أخذه أمر مفروغ منه، لا مراجعة لأبيهم فيه.. فقد سلم به لهم حكما إن لم يكن قد سلم به واقعا.. ثم جاء قولهم {وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} إغراء لأبيهم بالتسليم لهذا الأمر الذي لابد منه، ففيه جلب الخير لهم، وهم في وجه هذا العسر والضيق!.
وانظر إلى روعة النظم القرآنى في تصويره لهذا الإغراء العجيب الذي جاء محمولا إلى يعقوب في قولهم {هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}.
فهذه الواوات المتتابعة التي تجمع تلك المتعاطفات، وتقرن بعضها إلى بعض- تمثّل أروع ما يمكن أن يبلغه فنّ العرض لمجموعة من فريد اللآلئ وكريم الجواهر، تحركها يد صناع، فتجيء بها واحدة إثر أخرى، حتى لكأنها أنغام موسيقية، تؤلف لحنا! وفى اختيار حرف الواو من بين حروف العطف، وفى تكراره، دون مغايرة- في هذا ما يزاوج بين هذه المتعاطفات، ويؤاخى بينها، بحيث تبدو متجمعة، وهى متفرقة- لما في حرف الواو من رخاوة، ولين، حيث تصبح هذه المتعاطفات على هذا النسق، كيانا واحدا لا يمكن الفصل بين أجزائه.. {وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}.
إنها أمر واحد وطلب واحد! {قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ}.
لم يجد يعقوب بدّا من التسليم بالأمر الواقع، بعد أن أخذ عليه أبناؤه كل سبيل، للتخلص من هذا الطلب الذي طلبوه.
وإنه لكى يقيم لنفسه عذرا بين يدى تلك المخاوف التي يتخوفها على ابنه هذا، دفعهم عنه بقوله: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ}! هكذا بدأهم بهذا الحكم القاطع. كما بدءوه هم بقولهم: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ}..!
ثم جاءهم مستثنيا هذا الحكم بقوله: {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ}.
أي إننى لن أرسله معكم حتى توثقوا معى عهدا وميثاقا تشهدون اللّه عليه، أن تعيدوه إلىّ، إلا إذا أحاط بكم مكروه، فغلبكم عليه.
فذلك مما لا حيلة لكم فيه.
وفى قوله: {إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ} ما يكشف عن شعور يعقوب، وأنه يتوقع مكروها يقع لابنه هذا.. تماما، كما كان ذلك شعوره حين طلب إليه أبناؤه أن يرسل يوسف معهم، فقال: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ}.
وقد صدق شعوره في كلا الحالين.. فكان للذئب قصة مع يوسف، وكان للأحداث قصة مع أخيه!- {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ}.
لقد تم الأمر إذن، وأعطى الأبناء موثقهم لأبيهم، ورضى الأب، بعد أن جعل اللّه وكيلا وشهيدا على ما كان بينه وبينهم.
{وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
وحين تحركت القافلة للسير إلى مصر، بأبناء يعقوب، ومعهم أخوهم المطلوب لعزيز مصر، نصح لهم أبوهم فيما نصح بقوله: {يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}! والسؤال هنا:
ما حكمة هذا النصح الذي نصح لهم به؟ وماذا يكون لو دخلوا مصر من باب واحد؟.
لعل أظهر ما في هذه النصيحة من حكمة هي ألا يلفتوا الأنظار إليهم، بهذا الموكب الذي ينتظم أحد عشر أخا.. في سمت واحد، من الجمال والجلال.
فذلك من شأنه أن يدير الرءوس إليهم، وأن تدور الأحاديث عنهم، وتختلف الآراء فيهم، وليس ببعيد أن يكاد لهم من أكثر من جهة: من النساء والرجال، أو من تجار مثلهم، أو من حاشية العزيز نفسه، وقد رأت الحاشية ما كان من العزيز من تلطفه بهم، ومن كيله لهم دون أن يأخذ منهم شيئا.. فما أكثر دوافع الحسد والغيرة في قلوب الناس، وما أكثر ما في قلوب الناس من حسد وغيرة حول السلطان وحاشية السلطان! وأيا كان الأمر، فإنه شعور الأب الذي يتخوف على أبنائه نسمات الريح حين تهب عليهم، فكيف وهم على سفر طويل، وفى يد غربة موحشة قاسية؟
ثم كيف وقد كانت فجيعته في يوسف لا تزال تفرى كبده!؟
وفى قوله تعالى: {وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} إشارة إلى أن هذا النصح الذي نصح لهم به، لا يردّ عنهم قضاء اللّه، ولا يدفع القدر المقدور لهم {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، فهو سبحانه الذي يحكم في عباده كما يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا معقب لقضائه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي فوضت أمرى إليه، وأسلمت مقودى له {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي عليه وحده ينبغى أن يكون معتمد كل معتمد، ومستند كل مستند.. أما ما سواه فلا معوّل عليه، ولا رجاء عنده، ولا عون منه.

.تفسير الآيات (68- 76):

{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها}.
فاعل الفعل {يغنى} ضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل دخلوا والتقدير: فلما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى هذا الدخول عنهم من اللّه من شيء، فقضاؤه نافذ لا محالة، لا يدفعه عنهم هذا التدبير الذي دبّر لهم من أبيهم!. وفى تقييد الجملة الخبرية: {ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} في تقييدها بظرف الدخول. في قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا} إشارة إلى أن قضاء اللّه كان يترصدهم على تلك الأبواب المتفرقة التي دخلوا منها، كما أمرهم أبوهم، وأن ما كان يحذره أبوهم عليهم، وصرفهم عنه إلى حيث قدر لهم الأمن السلامة- هو الذي دفع بهم إلى حيث جرى القدر المقدور لهم، كما ستكشف عنه الأيام بعد.. فسبحان عالم الغيب والشهادة، ومن بيده ملكوت السموات والأرض.
لمحة من القضاء والقدر:
وفى قوله تعالى: {إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها} إشارة إلى أن يعقوب، يعلم هذا حقّ العلم، وأن نصحه لأبنائه، وتحذيره إياهم أن يدخلوا من باب واحد، وأمرهم بأن يدخلوا من أبواب متفرقة- ما كان يغنى عنهم من أمر اللّه وقضائه شيئا، وهذا ما أشار إليه يعقوب بقوله: {وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}.
ولكنّها حاجة في نفس يعقوب قضاها، وكان واجبا عليه أن يقضى هذه الحاجة، كما كشف عنها تقديره، وتدبيره.. ذلك أن واجبا على الإنسان أن يدبّر نفسه، وأن ينظر في شئونه وأحواله، وأن يزنها بالميزان الذي ترجح فيه كفة خيرها على شرها، حسب تقديره وتدبيره، ثم يمضى أمره ذلك على الوجه الذي قدره.. أما ما قدّره اللّه سبحانه وتعالى فهو محجوب عنه، لا ينكشف له حتى يقع. وهو واقع لا شكّ على ما قدّره اللّه سبحانه وقضى به.. سواء اتفق مع تقديره هو أم اختلف.
فالإنسان مطالب بأن يعمل، غير ناظر إلى قدر اللّه وقضائه، لأنه لا يعلم ولا يرى، ما قدّره اللّه وقضاه، ولو أنّه انتظر حتى ينكشف له القضاء، ما عمل شيئا أبدا حتى يقع القضاء، وينفذ القدر، حيث لا يكون له في هذا سعى واجتهاد، ولكان بهذا كائنا مسلوب الإرادة، فاقد الإدراك! وهذا ما لا ينبغى أن يكون عليه الإنسان، وقد وهبه اللّه عقلا، وأودع فيه إرادة..!
وسنعرض لموضوع القضاء والقدر، عند تفسير قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [79: الكهف]- في هذا اللقاء المثير الذي كان بين موسى وبين العبد الصالح.
وفى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ} إشارة إلى أن يعقوب يعلم هذه الحقيقة، وهى أن قضاء اللّه نافذ لا مردّ له، ولكنه مطالب بأن يعطى وجوده حقّه، من حيث هو إنسان عاقل مريد.
فهو ذو علم لما علّمه اللّه سبحانه وتعالى، وهو بهذا العلم يعمل ما يمليه عليه عقله، ويدلّه عليه نظره، متوكلا على اللّه، مفوضا أمره إليه، راضيا بما يأتى به قضاء اللّه فيه! {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} هذه الحقيقة.. فهم بين إنسان يعمل غير ناظر أبدا إلى ما للّه من سلطان فيما يعمل.. وبين إنسان لا يعمل شيئا، مستسلما لما يأتى به القدر.. وكلا الطرفين جائر، بعيد عن الطريق السّوىّ المستقيم! قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
آوى إليه أخاه. ضمّه إليه، وخلا به، وكان له أشبه بالمأوى الذي يأوى إليه الإنسان، فلا يراه أحد.
لا تبتئس: أي لا تحزن، ولا تضق ذرعا بما سيكون منهم لك، من اتهام وقذف.. وهكذا بدأ يوسف تنفيذ الخطة التي اختطها من قبل، والتي بها حمل إخوته على أن يأتوه بأخيهم من أبيهم هذا، فخلا به يوسف وأنبأه أنّه هو أخوه يوسف، وأنه لن يكشف عن نفسه لإخوته الآن، حتى يضعهم أمام التجربة التي أعدّها لهم، وأن على أخيه ألّا يجزع ولا يقع في نفسه ما يسوؤه منهم، خلال تلك التجربة! {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ}.
السّقاية: القدح الذي يستخدمه الملك لشرابه، ويستقى به.
والعير: الدوابّ التي تستخدم للحمل والركوب.
وتبدأ التجربة بأن يأمر يوسف غلمانه بأن يدسّوا القدح الذي يستخدمه لشرابه في رحل أخيه، ثم ينادى مناديه وراء القوم وقد تحركوا للمسير نحو العودة إلى ديارهم.
وفى المناداة عليهم بقوله: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} بتوجيه النداء إلى عيرهم، دون المناداة عليهم بقوله: أيها الركب، مثلا- في هذا دعوة لهم إلى أن يتوقفوا عن السير.. ولما كانت العير هي المنظور إليها عند هذا النداء، لأنها هي المتحركة، فقد حسن مخاطبتها، لأنها هي المطلوبة أولا.. فإذا وقفت كان للمنادين شأنهم مع راكبيها.. ولهذا فإنه ما إن صدر النداء: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} حتى توقفت، وما إن توقفت حتى كان الحديث إلى راكبيها: {إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ}! {قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ}.
لقد لوى الركب زمام عيرهم عن السير إلى وجهتهم، واستداروا بها نحو من يهتفون بهم، ويلقون إليهم بهذه التهمة الشنعاء: {إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ}! فقالوا لهم، وقد أقبلوا عليهم: {ماذا تفقدون}؟
{قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}.
لقد كان الرد بلسان الجميع: {نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ} هذا هو ما سرق وذلك ما نتهمكم بسرقته.!
أما رئيس هذا الجمع المنطلق وراء القوم، فإنه يتحدث إليهم بما يملك من سلطان، لا يملكه غيره من جماعته.. فيقول بلسانه هو: {وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}.
فهو يريد أن يأخذ الأمر بالحسنى، وأن يستردّ الصّواع من آخذه، في مقابل جعل جعله له، وهو حمل بعير من الطعام، وأنه كفيل وضامن لتحقيق هذا الوعد! {قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ}.
أي لقد علمتم من أمرنا أننا ما جئنا لنحدث في أرضكم فسادا، وإنّما جئنا تجارا لا سراقا.. {وَما كُنَّا سارِقِينَ} لهذا الصّواع الذي تدّعونه علينا.
{قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
إذن فلقد خرج الأمر عن المياسرة والمسالمة، إلى هذا التحدّى.
{فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ}؟ أي ما جزاء السّارق إذا كنتم كاذبين في قولكم {وَما كُنَّا سارِقِينَ}؟.
{قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ} أي جزاء السارق أن يؤخذ بجرم ما سرق.
{كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي هذا هو الحكم الذي ندين به من يعتدى، وهو أن نأخذه بعدوانه.. لا نقبل فيه شفاعة، ولا نعفيه من تحمّل تبعة ما جنى! {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ}.
لقد جيء بالقوم إلى العزيز نفسه، حتى يكشف عن أمرهم بين يديه، ليظهر إن كانوا سارقين، أم غير سارقين.. فبدأ بالبحث عن الصّواع في أوعيتهم، أولا، ثم بالبحث عنها في وعاء أخيه، وذلك مبالغة في إخفاء، التدبير الذي دبّره لهم.. {ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ}! والسؤال هنا: لم كان الحديث عن الصّواع بضمير المذكر، ثم كان الحديث عنه هنا بضمير المؤنث؟.
والجواب: أن الضمير المذكر يعود إلى الصّواع على اعتبار أنه شيء أو متاع ضائع من الملك.. أما الضمير المؤنث فإنه يعود إلى السّقاية، وهى الصواع أيضا، ولكن العزيز ذكره باسم السقاية، كما يقول اللّه تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} ثم تدور تلك السقاية دورتها وتعود إلى العزيز مرة أخرى {ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ}.
فهو الذي جعلها في وعاء أخيه، ثم هو الذي استخرجها من وعاء أخيه.
قوله تعالى: {كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ}.
الكيد التدبير المحكم، وفى نسبة الكيد والتدبير إلى اللّه سبحانه وتعالى إشارة إلى ألطافه بيوسف، ورعايته وتولّيه له، وأنه سبحانه هو الذي يدبّر هذا التدبير المحكم، وأنه بمثل هذا التدبير الذي دبّره له، بلغ ما بلغ من منازل العزة والسيادة.. وتسمية تدبير اللّه كيدا، تقريب لمفهومه المتعارف بين الناس، وذلك أنه إذا كان التدبير محكما، تتشعب مسالكه، وتتباعد أسبابه- ثم تلتقى جميعها آخر الأمر، فتقع على الهدف المراد- كان هذا التدبير كيدا، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [15- 16: الطارق].
قوله تعالى: {ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} أي أنه ما كان يقع في تقديره أبدا أن يدخل أخاه في سلطان الملك، فيصبح رجلا من رجال دولته.. ولكن بمشيئة اللّه وتقديره، كان هذا الذي لم يكن متصوّرا، ووقع ذلك الذي لم يكن متوقعا.
قوله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} أي بيدنا الملك، فنهب ما نشاء لعبادنا المخلصين من برّ وإحسان، ومن علم ومعرفة!.
قوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى أن ما بلغه يوسف من علم، هو علم قليل، لا يوازن ذرة من علمنا.. وأن هذا العلم الذي معه، والذي بلغ به هذه المكانة في الناس- هذا العلم فوقه درجات كثيرة من العلم.. وفوق هذه الدرجات درجات.. وهكذا حتى تصبّ جميعها في محيط العلم الإلهى الذي لا حدود له.